آيات
١٦٥
مكان النزول
مكة المكرمة
(مقتبس من تفسير ابن عاشور – التحرير والتنوير)
ليس لهذه السورة إلا هذا الاسم من عهد رسول الله ﷺ . روى الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمر: قال رسول الله ﷺ: «نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد» وورد عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأسماء بنت يزيد بن السكن - تسميتها في كلامهم سورة الأنعام. وكذلك ثبتت تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة.
وسميت سورة الأنعام لما تكرر فيها من ذكر لفظ الأنعام ست مرات من قوله: ﴿وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا﴾ [الأنعام: ١٣٦] إلى قوله: ﴿إذ وصاكم الله بهذا﴾ [الأنعام: ١٤٤] .
وهي مكية بالاتفاق فعن ابن عباس: أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة، كما رواه عنه عطاء، وعكرمة، والعوفي، وهو الموافق لحديث ابن عمر عن رسول الله ﷺ المتقدم آنفا. وروي أن قوله تعالى: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي﴾ [الأنعام: ٥٢] الآية، نزل في مدة حياة أبي طالب، أي قبل سنة عشر من البعثة، فإذا صح كان ضابطا لسنة نزول هذه السورة. وروى الكلبي عن ابن عباس: أن ست آيات منها نزلت بالمدينة، ثلاثا من قوله: ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ [الأنعام: ٩١] إلى منتهى ثلاث آيات، وثلاثا من قوله: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم﴾ [الأنعام: ١٥١] إلى قوله: ﴿ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون﴾ [الأنعام: ١٥٢] . وعن أبي جحيفة أن آية ﴿ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة﴾ [الأنعام: ١١١] مدنية.
وقيل نزلت آية ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي﴾ [الأنعام: ٩٣] الآية بالمدينة، بناء على ما ذكر من سبب نزولها الآتي. وقيل: نزلت آية ﴿الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه﴾ [الأنعام: ٢٠] الآية، وآية ﴿فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به﴾ [العنكبوت: ٤٧] الآية، كلتاهما بالمدينة بناء على ما ذكر من أسباب نزولهما كما سيأتي. وقال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله تعالى: ﴿قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما﴾ [الأنعام: ١٤٥] الآية أنها في قول الأكثر نزلت يوم نزول قوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ [المائدة: ٣] الآية، أي سنة عشر، فتكون هذه الآيات مستثناة من مكية السورة ألحقت بها. وقال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ [الأنعام: ٩١] الآية من هذه السورة. إن النقاش حكى أن سورة الأنعام كلها مدنية. ولكن قال ابن الحصار: لا يصح نقل في شيء نزل من الأنعام في المدينة. وهذا هو الأظهر وهو الذي رواه أبو عبيد، والبيهقي، وابن مردويه، والطبراني، عن ابن عباس؛ وأبو الشيخ عن أبي بن كعب.
وعن ابن عباس أنها نزلت بمكة جملة واحدة ودعا رسول الله ﷺ الكتاب فكتبوها من ليلتهم.
وروى سفيان الثوري، وشريك «عن أسماء بنت يزيد الأنصارية: نزلت سورة الأنعام على رسول الله ﷺ جملة وهو في مسير وأنا آخذة بزمام ناقته إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة» . ولم يعينوا هذا المسير ولا زمنه غير أن أسماء هذه لا يعرف لها مجيء إلى رسول الله ﷺ قبل هجرته ولا هي معدودة فيمن بايع في العقبة الثانية حتى يقال: إنها لقيته قبل الهجرة، وإنما المعدودة أسماء بنت عمرو بن عدي. فحال هذا الحديث غير بين. ولعله التبس فيه قراءة السورة في ذلك السفر بأنها نزلت حينئذ.
قالوا: ولم تنزل من السور الطوال سورة جملة واحدة غيرها. وقد وقع مثل ذلك في رواية شريك عن أسماء بنت يزيد كما علمته آنفا، فلعل حكمة إنزالها جملة واحدة قطع تعلل المشركين في قولهم: ﴿لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة﴾ [الفرقان: ٣٢] . توهما منهم أن تنجيم نزوله يناكد كونه كتابا، فأنزل الله سورة الأنعام. وهي في مقدار كتاب من كتبهم التي يعرفونها كالإنجيل والزبور، ليعلموا أن الله قادر على ذلك، إلا أن حكمة تنجيم النزول أولى بالمراعاة. وأيضا ليحصل الإعجاز بمختلف أساليب الكلام من قصر وطول وتوسط، فإن طول الكلام قد يقتضيه المقام، كما قال قيس بن خارجة يفخر بما عنده من الفضائل: وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب إلخ.
وقال أبو دؤاد بن جرير الإيادي يمدح خطباء إياد:
يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة الرقباء
واعلم أن نزول هذه السورة جملة واحدة على الصحيح لا يناكد ما يذكر لبعض آياتها من أسباب نزولها، لأن أسباب نزول تلك الآيات إن كان لحوادث قبل الهجرة فقد تتجمع أسباب كثيرة في مدة قصيرة قبل نزول هذه السورة، فيكون نزول تلك الآيات مسببا على تلك الحوادث، وإن كان بعد الهجرة جاز أن تكون تلك الآيات مدنية ألحقت بسورة الأنعام لمناسبات. على أن أسباب النزول لا يلزم أن تكون مقارنة لنزول آيات أحكامها فقد يقع السبب ويتأخر تشريع حكمه.
وعلى القول الأصح أنها مكية فقد عدت هذه السورة الخامسة والخمسين في عد نزول السور. نزلت بعد سورة الحجر وقبل سورة الصافات.
وعدد آياتها مائة وسبع وستون في العدد المدني والمكي، ومائة وخمس وستون في العدد الكوفي، ومائة وأربع وستون في الشامي والبصري.
ابتدأت بإشعار الناس بأن حق الحمد ليس إلا لله لأنه مبدع العوالم جواهر وأعراضا، فعلم أنه المتفرد بالإلهية. وإبطال تأثير الشركاء من الأصنام والجن بإثبات أنه المتفرد بخلق العالم جواهره وأعراضه، وخلق الإنسان ونظام حياته وموته بحكمته تعالى وعلمه، ولا تملك آلهتهم تصرفا ولا علما.
وتنزيه الله عن الولد والصاحبة. قال أبو إسحاق الإسفرائيني: في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد.
وموعظة المعرضين عن آيات القرآن والمكذبين بالدين الحق، وتهديدهم بأن يحل بهم ما حل بالقرون المكذبين من قبلهم والكافرين بنعم الله تعالى، وأنهم ما يضرون بالإنكار إلا أنفسهم.
ووعيدهم بما سيلقون عند نزع أرواحهم، ثم عند البعث.
وتسفيه المشركين فيما اقترحوه على النبيء ﷺ من طلب إظهار الخوارق تهكما.
وإبطال اعتقادهم أن الله لقنهم على عقيدة الإشراك قصدا منهم لإفحام الرسول ﷺ وبيان حقيقة مشيئة الله.
وإثبات صدق القرآن بأن أهل الكتاب يعرفون أنه الحق.
والإنحاء على المشركين تكذيبهم بالبعث، وتحقيق أنه واقع، وأنهم يشهدون بعده العذاب، وتتبرأ منهم آلهتهم التي عبدوها، وسيندمون على ذلك، كما أنها لا تغني عنهم شيئا في الحياة الدنيا، فإنهم لا يدعون إلا الله عند النوائب.
وتثبيت النبيء ﷺ وأنه لا يؤاخذ بإعراض قومه، وأمره بالإعراض عنهم.
وبيان حكمة إرسال الله الرسل، وأنها الإنذار والتبشير وليست وظيفة الرسل إخبار الناس بما يتطلبون علمه من المغيبات.
وأن تفاضل الناس بالتقوى والانتساب إلى دين الله.
وإبطال ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال.
وبيان أن التقوى الحق ليست مجرد حرمان النفس من الطيبات بل هي حرمان النفس من الشهوات التي تحول بين النفس وبين الكمال والتزكية.
وضرب المثل للنبيء مع قومه بمثل إبراهيم مع أبيه وقومه؛ وكان الأنبياء والرسل على ذلك المثل من تقدم منهم ومن تأخر.
والمنة على الأمة بما أنزل الله من القرآن هدى لهم كما أنزل الكتاب على موسى، وبأن جعلها الله خاتمة الأمم الصالحة.
وبيان فضيلة القرآن ودين الإسلام وما منح الله لأهله من مضاعفة الحسنات.
وتخللت ذلك قوارع للمشركين، وتنويه بالمؤمنين، وامتنان بنعم اشتملت عليها مخلوقات الله، وذكر مفاتح الغيب.
قال فخر الدين: قال الأصوليون (أي علماء أصول الدين): السبب في إنزالها دفعة واحدة أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوءة والمعاد وإبطال مذاهب المعطلين والملحدين؛ فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله جملة واحدة.
وهي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية، وأشدها مقارعة جدال لهم واحتجاج على سفاهة أحوالهم من قوله: ﴿وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا﴾ [الأنعام: ١٣٦]، وفيما حرموه على أنفسهم مما رزقهم الله.
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام ﴿قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين﴾ [الأنعام: ١٤٠] .
ووردت في فضل سورة الأنعام وفضل آيات منها روايات كثيرة عن النبيء ﷺ عن ابن مسعود، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأسماء بنت يزيد.