آيات
٨٥
مكان النزول
مكة المكرمة
(مقتبس من تفسير ابن عاشور – التحرير والتنوير)
سورة المؤمن وردت تسمية هذه السورة في السنة (حم المؤمن) روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «من قرأ (حم المؤمن) إلى (إليه المصير)، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما» الحديث. وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق، وبذلك ترجمها البخاري في صحيحه والترمذي في الجامع. ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح.
والوجه في إعراب هذا الاسم حكاية كلمة (حم) ساكنة الميم بلفظها الذي يقرأ. وبإضافته إلى لفظ (المؤمن) بتقدير: سورة حم ذكر المؤمن أو لفظ المؤمن وتسمى أيضا (سورة الطول) لقوله تعالى في أولها (ذي الطول) وقد تنوسي هذا الاسم. وتسمى سورة غافر لذكر وصفه تعالى (غافر الذنب) في أولها. وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب.
وهي مكية بالاتفاق وعن الحسن استثناء قوله تعالى ﴿وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار﴾ [غافر: ٥٥]، لأنه كان يرى أنها نزلت في فرض الصلوات الخمس وأوقاتها. ويرى أن فرض صلوات خمس وأوقاتها ما وقع إلا في المدينة وإنما كان المفروض بمكة ركعتين كل يوم من غير توقيت، وهو من بناء ضعيف على ضعيف فإن الجمهور على أن الصلوات الخمس فرضت بمكة في أوقاتها على أنه لا يتعين أن يكون المراد بالتسبيح في تلك الآية الصلوات بل يحمل على ظاهر لفظه من كل قول ينزه به الله تعالى.
وأشذ منه ما روي عن أبي العالية أن قوله تعالى ﴿إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه﴾ [غافر: ٥٦] نزلت في يهود من المدينة جادلوا النبيء ﷺ في أمر الدجال وزعموا أنه منهم. وقد جاء في أول السورة ﴿ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا﴾ [غافر: ٤]، والمراد بهم: المشركون.
وهذه السورة جعلت الستين في عداد ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الزمر وقبل سورة فصلت وهي أول سور آل حم نزولا.
وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب، أي سنة ثلاث قبل الهجرة لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية ﴿أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله﴾ [غافر: ٢٨] حين آذى نفر من قريش رسول الله ﷺ حول الكعبة، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله ﷺ بعد وفاة أبي طالب.
والسور المفتتحة بكلمة (حم) سبع سور مرتبة في المصاحف على ترتيبها في النزول ويدعى مجموعها (آل حم) جعلوا لها اسم (آل) لتآخيها في فواتحها. فكأنها أسرة واحدة وكلمة آل تضاف إلى ذي شرف ويقال لغير المقصود تشريفه أهل فلان قال الكميت:
قرأنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا فقيه ومعرب
يريد قول الله تعالى في سورة ﴿حم﴾ [الشورى: ١] ﴿عسق﴾ [الشورى: ٢]، ﴿قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى﴾ [الشورى: ٢٣] على تأويل غير ابن عباس فلذلك عززه بقوله: تأولها منا فقيه ومعرب.
وربما جمعت السور المفتتحة بكلمة (حم) فقيل (الحواميم) جمع تكسير على زنة فعاليل لأن مفرده على وزن فاعيل وزنا عرض له من تركيب اسمي الحرفين: حا، ميم؛ فصار كالأوزان العجمية مثل قابيل وراحيل وما هو بعجمي لأنه وزن عارض لا يعتد به. وجمع التكسير على فعاليل يطرد في مثله.
وقد ثبت أنهم جمعوا (حم) على حواميم في أخبار كثيرة عن ابن مسعود، وابن عباس، وسمرة بن جندب، ونسب في بعض الأخبار إلى النبيء ﷺ ولم يثبت بسند صحيح. ومثله السور المفتتحة بكلمة (طس) أو (طسم) جمعوها على طواسين بالنون تغليبا. وأنشد أبو عبيدة أبياتا لم يسم قائلها:
حلفت بالسبع الألى قد طولت ∗∗∗ وبمئين بعدها قد أمئت
وبثمان ثنيت وكررت ∗∗∗ وبالطواسين اللواتي ثلثت
وبالحواميم اللواتي سبعت ∗∗∗ وبالمفصل التي قد فصلت
وعن أبي عبيدة والفراء: أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب وتبعهما أبو منصور الجواليقي.
وقد عدت آيها أربعا وثمانين في عد أهل المدينة وأهل مكة، وخمسا وثمانين في عد أهل الشام والكوفة، واثنتين وثمانين في عد أهل البصرة.
تضمنت هذه السورة أغراضا من أصول الدعوة إلى الإيمان، فابتدئت بما يقتضي تحدي المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المقطعان في فاتحتهما كما تقدم في أول سورة البقرة.
وأجري على اسم الله تعالى من صفاته ما فيه تعريض بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه، فكانت فاتحة السور مثل ديباجة الخطبة مشيرة إلى الغرض من تنزيل هذه السورة.
وعقب ذلك بأن دلائل تنزيل هذا الكتاب من الله بينة لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسدا، وأن جدالهم تشغيب وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خمس مرات في هذه السورة، وتمثيل حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالا، ثم التنبيه على آثار استئصالهم وضرب المثل بقوم فرعون.
وموعظة مؤمن آل فرعون قومه بمواعظ تشبه دعوة محمد ﷺ قومه.
والتنبيه على دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية إجمالا.
وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله.
والتذكير بنعم الله على الناس ليشكره الذين أعرضوا عن شكره.
والاستدلال على إمكان البعث.
وإنذارهم بما يلقون من هوله وما يترقبهم من العذاب، وتوعدهم بأن لا نصير لهم يومئذ وبأن كبراءهم يتبرءون منهم.
وتثبيت الله رسوله ﷺ بتحقيق نصر هذا الدين في حياته وبعد وفاته.
وتخلل ذلك الثناء على المؤمنين ووصف كرامتهم وثناء الملائكة عليهم.
وورد في فضل هذه السورة الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله «من قرأ حم المؤمن إلى (إليه المصير) وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح» .
أسلوبها أسلوب المحاجة والاستدلال على صدق القرآن وأنه منزل من عند الله، وإبطال ضلالة المكذبين وضرب مثلهم بالأمم المكذبة، وترهيبهم من التمادي في ضلالهم وترغيبهم في التبصر ليهتدوا.
وافتتحت بالحرفين المقطعين من حروف الهجاء لأن أول أغراضها أن القرآن من عند الله ففي حرفي الهجاء رمز إلى عجزهم عن معارضته بعد أن تحداهم، لذلك فلم يفعلوا، كما تقدم في فاتحة سورة البقرة.
وفي ذلك الافتتاح تشويق إلى تطلع ما يأتي بعده للاهتمام به.
وكان في الصفات التي أجريت على اسم منزل القرآن إيماء إلى أنه لا يشبه كلام البشر لأنه كلام العزيز العليم، وإيماء إلى تيسير إقلاعهم عن الكفر، وترهيب من العقاب على الإصرار، وذلك كله من براعة الاستهلال.
ثم تخلص من الإيماء والرمز إلى صريح وصف ضلال المعاندين وتنظيرهم بسابقيهم من الأمم التي استأصلها الله.
وخص بالذكر أعظم الرسل السالفين وهو موسى مع أمة من أعظم الأمم السالفة وهم أهل مصر وأطيل ذلك لشدة مماثلة حالهم لحال المشركين من العرب في الاعتزاز بأنفسهم، وفي قلة المؤمنين منهم مثل مؤمن آل فرعون، وتخلل ذلك ثبات موسى وثبات مؤمن آل فرعون إيماء إلى التنظير بثبات محمد ﷺ وأبي بكر، ثم انتقل إلى الاستدلال على الوحدانية وسعة القدرة على إعادة الأموات.
وختمت بذكر أهل الضلال من الأمم السالفة الذين أوبقهم الإعجاب برأيهم وثقتهم بجهلهم فصمت آذانهم عن سماع حجج الحق، وأعماهم عن النظر في دلائل الكون فحسبوا أنهم على كمال لا ينقصهم ما به حاجة إلى الكمال، فحاق بهم العذاب، وفي هذا رد العجز على الصدر. وخوف الله المشركين من الانزلاق في مهواة الأولين بأن سنة الله في عباده الإمهال ثم المؤاخذة، فكان ذلك كلمة جامعة للغرض أذنت بانتهاء الكلام فكانت محسن الختام.
وتخلل في ذلك كله من المستطردات والانتقالات بذكر ثناء الملأ الأعلى على المؤمنين وثنائهم على الكافرين، وذكر ما هم صائرون إليه من العذاب والندامة، وتمثيل الفارق بين المؤمنين والكافرين، وتشويه حال الكافرين في الآخرة، وتثبيت المؤمنين على إيمانهم وأن الله ناصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأمرهم بالصبر والتوكل، وأن شأن الرسول ﷺ كشأن الرسل من قبله في لقيان التكذيب وفي أنه يأتي بالآيات التي أجراها الله على يديه دون مقترحات المعاندين.