مكة المكرمة
سورة الفاتحة

آيات

٧

مكان النزول

مكة المكرمة

تمهيد عام للسورة 

(مقتبس من تفسير ابن عاشور – التحرير والتنوير)

 

سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة : أنهاها صاحب الإتقان إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف ، ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، وأم القرآن ، أو أم الكتاب ، فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة .

فأما تسميتها فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وفاتحة مشتقة من الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصود ولُوجه … ومعنى فتحها الكتاب أنها جعلت أول القرآن لمن يريد أن يقرأ القرآن من أوله فتكون فاتحة بالجعل النبوي في ترتيب السور ، وقيل لأنها أول ما نزل وهو ضعيف لما ثبت في الصحيح واستفاض أن أول ما أنزل سورة { اقرأ باسم ربك } وهذا مما لا ينبغي أن يتردد فيه . فالذي نجزم به أن سورة الفاتحة بعد أن نزلت أمر الله رسوله أن يجعلها أول ما يقرأ في تلاوته …

وأما تسميتها أم القرآن وأم الكتاب فقد ثبتت في السنة ، من ذلك ما في صحيح البخاري في كتاب الطب أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغا فجعل يقرأ عليه بأم القرآن ، وفي الحديث قصة ، ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئه ، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم : كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج أي منقوصة مخدوجة .وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوها ثلاثة :

أحدها أنها مبدؤه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه ، يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء القرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور والوجود .

الثاني أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع : الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه من جميع النقائص ، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله { الحمد لله } إلى قوله { ملك يوم الدين } ، والأوامر والنواهي من قوله { إياك نعبد } والوعد والوعيد من قوله { صراط الذين } إلى آخرها ، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله ، وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي ، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات ، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد . والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله { الحمد لله } إلى قوله { يوم الدين } حمد وثناء ، وقوله { إياك نعبد } إلى قوله { المستقيم } من نوع الأوامر والنواهي ، وقوله صراط الذين إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن ، وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في { قل هو الله أحد } أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى .

الثالث أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها وإما أحكام يقصد منها العمل بها ، فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص ، إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات ، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة ، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة …

{ الحمد لله } يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة { الحمد لله } من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و{ رب العالمين } يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها .

و{ الرحمن الرحيم } يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين ، و{ ملك يوم الدين } يشمل أحوال القيامة .

و{ إياك نعبد } يجمع معنى الديانة والشريعة . و{ إياك نستعين } يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال …

و{ اهدنا الصراط المستقيم } يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب ، و{ صراط الذين أنعمت عليهم } يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة .

وقوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن ، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة-تصريحا وتضمنا-علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض . وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية . ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكر لما في مطاويها .

وأما تسميتها السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة ، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد ابن المعلى أن رسول الله قال الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ووجه تسميتها بذلك أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري فقال هي ثمان آيات ، وإلا الحسين الجعفي فقال هي ست آيات ، وقال بعض الناس تسع آيات ويتعين حينئذ كون البسملة ليست من الفاتحة لتكون سبع آيات ومن عد البسملة أدمج آيتين .

وأما وصفها بالمثاني فهو مفاعل جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون ، أو مثنى مخفف مثنى ، أو مثنى بفتح الميم مخفف مثني كمعنى مخفف معني . ويجوز تأنيث الجميع كما نبه عليه السيد الجرجاني في شرح الكشاف . وكل ذلك مشتق من التثنية وهي ضم ثان إلى أول . ووجه الوصف به أن تلك الآيات تثنى في كل ركعة كذا في الكشاف . قيل وهو مأثور عن عمر بن الخطاب ، وهو مستقيم لأن معناه أنها تضم إليها السورة في كل ركعة ، ولعل التسمية بذلك كانت في أول فرض الصلاة فإن الصلوات فرضت ركعتين ثم أقرت صلاة السفر وأطيلت صلاة الحضر كذا ثبت في حديث عائشة في الصحيح وقيل العكس ، وقيل لأنها تثنى في الصلاة أي تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير بناء على ما شاع عند العرب من استعمال المثنى في مطلق المكرر نحو { ثم ارجع البصر كرتين } وقولهم لبيك وسعديك ، وعليه فيكون المراد بالمثاني هنا مثل المراد بالمثاني في قوله تعالى { كتابا متشابها مثاني } أي مكرر القصص والأغراض . وقيل سميت المثاني لأنها ثنيت في النزول فنزلت بمكة ثم نزلت في المدينة وهذا قول بعيد جدا وتكرر النزول لا يعتبر قائله ، وقد اتفق على أنها مكية فأي معنى لإعادة نزولها بالمدينة .

وهذه السورة مكية باتفاق الجمهور ، وقال كثير إنها أول سورة نزلت ، والصحيح أنه نزل قبلها { اقرأ باسم ربك } وسورة المدثر ثم الفاتحة ، وقيل نزل قبلها أيضا { ن~ والقلم } وسورة المزمل ، وقال بعضهم هي أول سورة نزلت كاملة أي غير منجمة ، بخلاف سورة القلم ، وقد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند فرضها ، وقد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة في ترتيب نزول السور . وأيا ما كان فإنها قد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب وأمر بأن تكون أول القرآن . قلت : ولا يناكد ذلك نزولها بعد سور أخرى لمصلحة اقتضت سبقها قبل أن يتجمع من القرآن مقدار يصير به كتابا فحين تجمع ذلك أنزلت الفاتحة لتكون ديباجة الكتاب . وأغراضها قد علمت من بيان وجه تسميتها أم القرآن .

وهي سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ، ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري ، قال هي ثمان آيات ، ونسب أيضا لعمرو بن عبيد وإلى الحسين الجعفي[3] قال هي ست آيات ، ونسب إلى بعضهم غير معين أنها تسع آيات ، وتحديد هذه الآيات السبع هو ما دل عليه حديث الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل ، قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد { الحمد لله رب العالمين } ، فأقول حمدني عبدي ، فإذا قال العبد { الرحمن الرحيم } ، يقول الله أثنى علي عبدي ، وإذا قال العبد { مالك يوم الدين } ، قال الله مجدني عبدي ، وإذا قال { إياك نعبد وإياك نستعين } ، قال الله : هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ، قال الله هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل اهـ .

فهن ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث ، فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية وتعد { أنعمت عليهم } آية ، وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية وتعد { أنعمت عليهم } جزء آية ، والحسن البصري عد البسملة آية وعد { أنعمت عليهم } آية.