آيات
١١٠
مكان النزول
مكة المكرمة
(مقتبس من تفسير ابن عاشور – التحرير والتنوير)
سماها رسول الله ﷺ سورة الكهف.
روى مسلم، وأبو داود، عن أبي الدرداء عن النبيء ﷺ قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف وفي رواية لمسلم: من آخر الكهف، عصم من فتنة الدجال» .
ورواه الترمذي عن أبي الدرداء بلفظ: «من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال»، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وكذلك وردت تسميتها عن البراء بن عازب في صحيح البخاري، قال: «كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو، وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبيء ﷺ فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة تنزلت بالقرآن» .
وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن النبيء ﷺ أنه سماها سورة أصحاب الكهف.
وهي مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية، قال: وروي عن فرقد أن أول السورة إلى قوله ”جرزا“ نزل بالمدينة، قال: والأول أصح.
وقيل قوله ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم﴾ [الكهف: ٢٨] الآيتين، نزلتا بالمدينة، وقيل قوله ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا﴾ [الكهف: ١٠٧] إلى آخر السورة نزل بالمدينة، وكل ذلك ضعيف، كما سيأتي التنبيه عليه في مواضعه.
نزلت بعد سورة الغاشية، وقبل سورة الشورى.
وهي الثامنة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد.
وقد ورد في فضلها أحاديث متفاوتة، أصحها الأحاديث المتقدمة وهي من السور التي نزلت جملة واحدة، روى الديلمي في سند الفردوس «عن أنس قال: نزلت سورة الكهف جملة، معها سبعون ألفا من الملائكة»، وقد أغفل هذا صاحب الإتقان.
وعدت آيها في عدد قراء المدينة ومكة مائة وخمسا، وفي عدد قراء الشام مائة وستا، وفي عدد قراء البصرة مائة وإحدى عشرة، وفي عد قراء الكوفة مائة وعشرا، بناء على اختلافهم في تقسيم بعض الآيات إلى آيتين.
وسبب نزولها ما ذكره كثير من المفسرين، وبسطه ابن إسحاق في سيرته بدون سند، وأسنده الطبري إلى ابن عباس بسند فيه رجل مجهول: «أن المشركين لما أهمهم أمر النبيء ﷺ، وازدياد المسلمين معه، وكثر تساؤل الوافدين إلى مكة من قبائل العرب عن أمر دعوته، بعثوا النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ”يثرب“، يسألونهم رأيهم في دعوته، وهم يطمعون أن يجد لهم الأحبار ما لم يهتدوا إليه مما يوجهون به تكذيبهم إياه، قالوا: فإن اليهود أهل الكتاب الأول، وعندهم من علم الأنبياء، أي صفاتهم وعلاماتهم، علم ليس عندنا، فقدم النضر وعقبة إلى المدينة، ووصفا لليهود دعوة النبيء ﷺ وأخبراهم ببعض قوله، فقال لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث ؟ فإن أخبركم بهن فهو نبيء، وإن لم يفعل فالرجل متقول، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وسلوه عن الروح ما هي، فرجع النضر، وعقبة فأخبرا قريشا بما قاله أحبار اليهود، فجاء جمع من المشركين إلى رسول الله ﷺ فسألوه عن هذه الثلاثة، فقال لهم رسول الله ﷺ: أخبركم بما سألتم عنه غدا، وهو ينتظر وقت نزول الوحي عليه بحسب عادة يعلمها، ولم يقل: إن شاء الله، فمكث رسول الله ثلاثة أيام لا يوحى إليه، وقال ابن إسحاق: خمسة عشر يوما، فأرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا اليوم عدة أيام لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، حتى أحزن ذلك رسول الله ﷺ، وشق عليه، ثم جاءه جبريل عليه السلام بسورة الكهف، وفيها جوابهم عن الفتية وهم أهل الكهف، وعن الرجل الطواف، وهو ذو القرنين، وأنزل عليه فيما سألوه من أمر الروح ﴿ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾ [الإسراء: ٨٥] في سورة الإسراء»، قال السهيلي: وفي رواية عن ابن إسحاق من غير طريق البكائي أي زياد بن عبد الله البكائي الذي يروي عنه ابن هشام أنه قال في هذا الخبر: فناداهم رسول الله ﷺ: هو - أي الروح - جبريل، وهذا خلاف ما روى غيره أن يهود قالت لقريش: سلوه عن الروح فإن أخبركم به فليس بنبيء، وإن لم يخبركم به فهو نبيء. اهـ.
وأقول: قد يجمع بين الروايتين بأن النبيء ﷺ بعد أن أجابهم عن أمر الروح بقوله تعالى ﴿قل الروح من أمر ربي﴾ [الإسراء: ٨٥] بحسب ما عنوه بالروح عدل بهم إلى الجواب عن أمر كان أولى لهم العلم به، وهو الروح الذي تكرر ذكره في القرآن، مثل قوله ﴿نزل به الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣] وقوله ﴿والروح فيها﴾ [القدر: ٤] (وهو من ألقاب جبريل) على طريقة الأسلوب الحكيم مع ما فيه من الإغاظة لليهود؛ لأنهم أعداء جبريل كما أشار إليه قوله تعالى ﴿قل من كان عدوا لجبريل﴾ [البقرة: ٩٧] الآية، ووضحه حديث عبد الله بن سلام في قوله للنبيء ﷺ حين ذكر جبريل عليه السلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فلم يترك النبيء ﷺ لهم منفذا قد يلقون منه التشكيك على قريش إلا سده عليهم.
وقد يعترضك هنا: أن الآية التي نزلت في أمر الروح هي من سورة الإسراء، فلم تكن مقارنة للآية النازلة في شأن الفتية، وشأن الرجل الطواف، فماذا فرق بين الآيتين ؟ وأن سورة الإسراء يروى أنها نزلت قبل سورة الكهف، فإنها معدودة سادسة وخمسين في عداد نزول السور، وسورة الكهف معدودة ثامنة وستين في النزول، وقد يجاب عن هذا بأن آية الروح قد تكون نزلت على أن تلحق بسورة الإسراء؛ فإنها نزلت في أسلوب سورة الإسراء، وعلى مثل فواصلها، ولأن الجواب فيها جواب بتفويض العلم إلى الله، وهو مقام يقتضي الإيجاز، بخلاف الجواب عن أهل الكهف، وعن ذي القرنين، فإنه يستدعي بسطا وإطنابا، ففرقت آية الروح عن القصتين.
على أنه يجوز أن يكون نزول سورة الإسراء مستمرا إلى وقت نزول سورة الكهف، فأنزل قرآن موزع عليها وعلى سورة الكهف، وهذا على أحد تأويلين في معنى كون الروح من أمر ربي كما تقدم في سورة الإسراء، والذي عليه جمهور الرواة أن آية ﴿ويسألونك عن الروح﴾ [الإسراء: ٨٥] مكية إلا ما روي عن ابن مسعود، وقد علمت تأويله في سورة الإسراء.
فاتضح من هذا أن أهم غرض نزلت فيه سورة الكهف هو بيان قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، وقد ذكرت أولاهما في أول السورة، وذكرت الأخرى في آخرها.
كرامة قرآنية:
لوضع هذه السورة على هذا الترتيب في المصحف مناسبة حسنة ألهم الله إليها أصحاب رسول الله ﷺ لما رتبوا المصحف، فإنها تقارب نصف المصحف، إذ كان في أوائلها موضع قيل هو نصف حروف القرآن، وهو (التاء) من قوله تعالى ﴿وليتلطف﴾ [الكهف: ١٩] وقيل: نصف حروف القرآن هو (النون) من قوله تعالى ﴿لقد جئت شيئا نكرا﴾ [الكهف: ٧٤] في أثنائها، وهو نهاية خمسة عشر جزءا من أجزاء القرآن، وذلك نصف أجزائه، وهو قوله تعالى ﴿قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا﴾ [الكهف: ٧٥]، فجعلت هذه السورة في مكان قرابة نصف المصحف.
وهي مفتتحة بالحمد حتى يكون افتتاح النصف الثاني من القرآن بـ ”الحمد لله“ كما كان افتتاح النصف الأول بـ ”الحمد لله“، وكما كان أول الربع الرابع منه تقريبا بـ ﴿الحمد لله فاطر السماوات والأرض﴾ [فاطر: ١] .
افتتحت بالتحميد على إنزال الكتاب؛ للتنويه بالقرآن تطاولا من الله تعالى على المشركين، وملقنيهم من أهل الكتاب.
وأدمج فيه إنذار المعاندين الذين نسبوا لله ولدا، وبشارة للمؤمنين، وتسلية رسول الله ﷺ عن أقوالهم حين تريث الوحي لما اقتضته سنة الله مع أوليائه من إظهار عتبه على الغفلة عن مراعاة الآداب الكاملة.
وذكر افتتان المشركين بالحياة الدنيا وزينتها، وأنها لا تكسب النفوس تزكية.
وانتقل إلى خبر أصحاب الكهف المسئول عنه.
وحذرهم من الشيطان وعداوته لبني آدم؛ ليكونوا على حذر من كيده.
وقدم لقصة ذي القرنين قصة أهم منها، وهي قصة موسى والخضر عليهما السلام؛ لأن كلتا القصتين تشابهتا في السفر لغرض شريف، فذو القرنين خرج لبسط سلطانه على الأرض، وموسى عليه السلام خرج في طلب العلم.
وفي ذكر قصة موسى تعريض بأحبار بني إسرائيل؛ إذ تهمموا بخبر ملك من غير قومهم، ولا من أهل دينهم، ونسوا خبرا من سيرة نبيئهم.
وتخلل ذلك مستطردات من إرشاد النبيء ﷺ وتثبيته، وأن الحق فيما أخبر به، وأن أصحابه الملازمين له خير من صناديد المشركين، ومن الوعد والوعيد، وتمثيل المؤمن والكافر، وتمثيل الحياة الدنيا وانقضائها، وما يعقبها من البعث والحشر، والتذكير بعواقب الأمم الدنيا وانقضائها، وما يعقبها من البعث والحشر، والتذكير بعواقب الأمم المكذبة للرسل، وما ختمت به من إبطال الشرك، ووعيد أهله، ووعد المؤمنين بضدهم، والتمثيل لسعة علم الله تعالى، وختمت بتقرير أن القرآن وحي من الله تعالى إلى رسوله ﷺ، فكان في هذا الختام محسن رد العجز على الصدر.