مكة المكرمة
سورة يونس

آيات

١٠٩

مكان النزول

مكة المكرمة

تمهيد عام للسورة

(مقتبس من تفسير ابن عاشور – التحرير والتنوير)

 

سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنة سورة يونس لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب فعفا الله عنهم لما آمنوا. وذلك في قوله - تعالى: ﴿فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين﴾ [يونس: ٩٨] . وتلك الخصوصية كرامة ليونس - عليه السلام - وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك. وقد ذكر يونس في سورة الصافات بأوسع مما في هذه السورة ولكن وجه التسمية لا يوجبها.

والأظهر عندي أنها أضيفت إلى يونس تمييزا لها عن أخواتها الأربع المفتتحة بـ (﴿الر﴾ [يونس: ١]) . ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبيء أو قوم نبيء عوضا عن أن يقال: (﴿الر﴾ [يونس: ١]) الأولى و(﴿الر﴾ [يونس: ١]) الثانية. وهكذا فإن اشتهار السور بأسمائها أول ما يشيع بين المسلمين بأولى الكلمات التي تقع فيها وخاصة إذا كانت فواتحها حروفا مقطعة فكانوا يدعون تلك السور بآلـ (حم) وآلـ (الر) ونحو ذلك.

وهي مكية في قول الجمهور. وهو المروي عن ابن عباس في الأصح عنه. وفي الإتقان عن عطاء عنه أنها مدنية. وفي القرطبي عن ابن عباس أن ثلاث آيات منها مدنية وهي قوله - تعالى: ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك﴾ [يونس: ٩٤] إلى قوله ﴿حتى يروا العذاب الأليم﴾ [يونس: ٨٨] وجزم بذلك القمي النيسابوري. وفي ابن عطية عن مقاتل إلا آيتين مدنيتين هما (فإن كنت في شك) إلى قوله (من الخاسرين) . وفيه عن الكلبي أن آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله - تعالى: (﴿ومنهم من يؤمن به﴾ [يونس: ٤٠]) إلى (أعلم بالمفسدين) نزلت في شأن اليهود.

وقال ابن عطية: قالت فرقة: نزل نحو من أربعين آية من أولها بمكة ونزل باقيها بالمدينة. ولم ينسبه إلى معين. وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئ. وسيأتي التنبيه عليه.

وعدد آيها مائة وتسع آيات في عد أكثر الأمصار، ومائة وعشر في عد أهل الشام.

وهي السورة الحادية والخمسون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة بني إسرائيل وقبل سورة هود. وأحسب أنها نزلت سنة إحدى عشرة بعد البعثة لما سيأتي عند قوله - تعالى: ﴿وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا﴾ [يونس: ٢١] .

أغراض السورة

ابتدئت بمقصد إثبات رسالة محمد ﷺ بدلالة عجز المشركين عن معارضة القرآن، دلالة نبه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله - تعالى: ﴿تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ [يونس: ١] إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله. وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله: ﴿قل فأتوا بسورة مثله﴾ [يونس: ٣٨] .

وأتبع بإثبات رسالة محمد ﷺ وإبطال إحالة المشركين أن يرسل الله رسولا بشرا.

وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد الله - تعالى - بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره، فأفضى ذلك إلى إبطال أن يكون لله شركاء في إلهيته، وإلى إبطال معاذير المشركين بأن أصنامهم شفعاء عند الله.

وأتبع ذلك بإثبات الحشر والجزاء. فذلك إبطال أصول الشرك.

وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات، وبيان حكمة الجزاء، وصفة الجزاء، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس، ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله، وبضد أولئك وعد الذين آمنوا. فكان معظم هذه السورة يدور حول محور تقرير هذه الأصول.

فمن ذلك التنبيه على أن إمهال الله - تعالى - الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمة منه.

ومن ذلك التذكير بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل.

والاعتبار بما خلق الله للناس من مواهب القدرة على السير في البر والبحر، وما في أحوال السير في البحر من الألطاف.

وضرب المثل للدنيا وبهجتها وزوالها، وأن الآخرة هي دار السلام.

واختلاف أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة، وتبرؤ الآلهة الباطلة من عبدتها.

وإبطال إلهية غير الله تعالى، بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.

وإثبات أن القرآن منزل من الله، وأن الدلائل على بطلان أن يكون مفترى واضحة.

وتحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثله، ولكن الضلالة أعمت أبصار المعاندين.

وإنذار المشركين بعواقب ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم، وأن ذلك لم يلحق قوم يونس لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب.

وتوبيخ المشركين على ما حرموه مما أحل الله من الرزق.

وإثبات عموم العلم لله تعالى.

وتبشير أولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وتسلية الرسول عما يقوله الكافرون.

وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم.

ثم تخلص إلى الاعتبار بالرسل السابقين نوح ورسل من بعده ثم موسى وهارون.

ثم استشهد على صدق رسالة محمد ﷺ بشهادة أهل الكتاب.

وختمت السورة بتلقين الرسول - عليه الصلاة والسلام - مما يعذر به لأهل الشك في دين الإسلام، وأن اهتداء من اهتدى لنفسه وضلال من ضل عليها، وأن الله سيحكم بينه وبين معانديه.