آيات
٥٣
مكان النزول
مكة المكرمة
(مقتبس من تفسير ابن عاشور – التحرير والتنوير)
﴿حم﴾﴿عسق﴾ .
ابتدئت بالحروف المقطعة على نحو ما ابتدئت به أمثالها مثل أول سورة البقرة لأن ابتداءها مشير إلى التحدي بعجزهم عن معارضة القرآن وأن عجزهم عن معارضته دليل على أنه كلام منزل من الله تعالى.
وخصت بزيادة كلمة (﴿عسق﴾) على أوائل السور من (آل حم) ولعل ذلك لحال كانوا عليه من شدة الطعن في القرآن وقت نزول هذه السورة، فكان التحدي لهم بالمعارضة أشد فزيد في تحديهم من حروف التهجي.
وإنما لم توصل الميم بالعين كما وصلت الميم بالراء في طالعة سورة الرعد، وكما وصلت الميم بالصاد في مفتتح سورة الأعراف، وكما وصلت العين بالصاد في مفتتح سورة مريم؛ لأن ما بعد الميم في السور الثلاث حرف واحد فاتصاله بما قبله أولى بخلاف ما في هذه السورة فإنه ثلاثة حروف تشبه كلمة فكانت أولى بالانفصال.
اشتهرت تسميتها عند السلف ﴿حم عسق﴾، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير والترمذي في جامعه، وكذلك سميت في عدة من كتب التفسير وكثير من المصاحف.
وتسمى سورة الشورى بالألف واللام كما قالوا سورة المؤمن، وبذلك سميت في كثير من المصاحف والتفاسير، وربما قالوا سورة شورى بدون ألف ولام حكاية للفظ القرآن.
وتسمى سورة عسق بدون لفظ حم لقصد الاختصار.
ولم يعدها في الإتقان في عداد السور ذات الاسمين فأكثر. ولم يثبت عن النبيء ﷺ شيء في تسميتها.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعدها في الإتقان في عداد السور المكية، وقد سبقه إلى ذلك الحسن بن الحصار في كتابه في الناسخ والمنسوخ كما عزاه إليه في الإتقان.
وعن ابن عباس وقتادة استثناء أربع آيات أولاها قوله: ﴿قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى﴾ [الشورى: ٢٣] إلى آخر الأربع الآيات.
وعن مقاتل استثناء قوله تعالى: ﴿ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا﴾ [الشورى: ٢٣] إلى قوله: إنه عليم بذات الصدور. روي أنها نزلت في الأنصار وهي داخلة في الآيات الأربع التي ذكرها ابن عباس. وفي أحكام القرآن لابن الفرس عن مقاتل: أن قوله تعالى: ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده﴾ [الشورى: ٢٧] الآية، نزل في أهل الصفة فتكون مدنية، وفيه عنه أن قوله تعالى: ﴿والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون﴾ [الشورى: ٣٩] إلى قوله: ﴿ما عليهم من سبيل﴾ [الشورى: ٤١] نزل بالمدينة.
نزلت بعد سورة الكهف وقبل سورة إبراهيم وعدت التاسعة والستين في ترتيب نزول السور عند الجعبري المروي عن جابر بن زيد. وإذا صح أن آية ﴿وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا﴾ [الشورى: ٢٨] نزلت في انحباس المطر عن أهل مكة كما قال مقاتل تكون السورة نزلت في حدود سنة ثمان بعد البعثة، ولعل نزولها استمر إلى سنة تسع بعد أن آمن نقباء الأنصار ليلة العقبة فقد قيل: إن قوله: ﴿والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم﴾ [الشورى: ٣٨] أريد به الأنصار قبل هجرة النبيء ﷺ إلى المدينة.
وعدت آيها عند أهل المدينة ومكة والشام والبصرة خمسين، وعند أهل الكوفة ثلاثا وخمسين.
أول أغراضها الإشارة إلى تحدي الطاعنين في أن القرآن وحي من الله بأن يأتوا بكلام مثله، فهذا التحدي لا تخلو عنه السور المفتتحة بالحروف الهجائية المقطعة، كما تقدم في سورة البقرة.
واستدل الله على المعاندين بأن الوحي إلى محمد ﷺ ما هو إلا كالوحي إلى الرسل من قبله لينذر أهل مكة ومن حولها بيوم الحساب.
وأن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض لا تعارض قدرته ولا يشك في حكمته، وقد خضعت له العوالم العليا ومن فيها وهو فاطر المخلوقات، فهو يجتبي من يشاء لرسالته فلا بدع أن يشرع للأمة المحمدية من الدين مثل ما شرع لمن قبله من الرسل، وما أرسل الله الرسل إلا من البشر يوحي إليهم فلم يسبق أن أرسل ملائكة لمخاطبة عموم الناس مباشرة.
وأن المشركين بالله لا حجة لهم إلا تقليد أئمة الكفر الذين شرعوا لهم الإشراك وألقوا إليهم الشبهات.
وحذرهم يوم الجزاء واقتراب الساعة وما سيلقى المشركون يوم الحساب من العذاب مع إدماج التعريض بالترغيب فيما سيلقاه المؤمنون من الكرامة، وأنهم لو تدبروا لعلموا أن النبيء ﷺ لا يأتي عن الله من تلقاء نفسه لأن الله لا يقره على أن يقول عليه ما لم يقله.
وذكرت دلائل الوحدانية وما هو من تلك الآيات نعمة على الناس، مثل دليل السير في البحر وما أوتيه الناس من نعم الدنيا.
وتسلية الرسول ﷺ بأن الله هو متولي جزاء المكذبين وما على الرسول ﷺ من حسابهم من شيء فما عليه إلا الاستمرار على دعوتهم إلى الحق القويم. ونبههم إلى أنه لا يبتغي منهم جزاء على نصحه لهم وإنما يبتغي أن يراعوا أواصر القرابة بينه وبينهم.
وذكرهم نعم الله عليهم، وحذرهم من التسبب في قطعها بسوء أعمالهم، وحرضهم على السعي في أسباب الفوز في الآخرة والمبادرة إلى ذلك قبل الفوات، فقد فاز المؤمنون المتوكلون، ونوه بجلايل أعمالهم وتجنبهم التعرض لغضب الله عليهم.
وتخلل ذلك تنبيه على آيات كثيرة من آيات انفراده تعالى بالخلق والتصرف المقتضي انفراده بالإلهية إبطالا للشرك.
وختمها بتجدد المعجزة الأمية بأن الرسول ﷺ جاءهم بهدى عظيم من الدين وقد علموا أنه لم يكن ممن تصدى لذلك في سابق عمره وذلك أكبر دليل على أن ما جاء به أمر قد أوحي إليه به فعليهم أن يهتدوا بهديه فمن اهتدى بهديه فقد وافق مراد الله.
وختم ذلك بكلمة جامعة تتضمن التفويض إلى الله وانتظار حكمه وهي كلمة ألا إلى الله تصير الأمور.
* * *