آيات
١١١
مكان النزول
مكة المكرمة
(مقتبس من تفسير ابن عاشور – التحرير والتنوير)
سميت في كثير من المصاحف سورة الإسراء، وصرح الألوسي بأنها سميت بذلك؛ إذ قد ذكر في أولها الإسراء بالنبي ﷺ، واختصت بذكره.
وتسمى في عهد الصحابة (سورة بني إسرائيل)، ففي جامع الترمذي في أبواب الدعاء «عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي ﷺ لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل» .
وفي صحيح البخاري «عن عبد الله بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي»، وبذلك ترجم لها البخاري في كتاب التفسير، والترمذي في أبواب التفسير. ووجه ذلك أنها ذكر فيها من أحوال بني إسرائيل ما لم يذكر في غيرها، وهو استيلاء قوم أولي بأس (الآشوريين) عليهم ثم استيلاء قوم آخرين، وهم الروم عليهم.
وتسمى أيضا سورة سبحان؛ لأنها افتتحت بهذه الكلمة، قال في بصائر ذوي التمييز.
وهي مكية عند الجمهور، قيل: إلا آيتين منها، وهما ﴿وإن كادوا ليفتنونك﴾[الإسراء: ٧٣] إلى قوله قليلا، وقيل: إلا أربعا، هاتين الآيتين، وقوله ﴿وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس﴾[الإسراء: ٦٠]، وقوله ﴿وقل رب أدخلني مدخل صدق﴾[الإسراء: ٨٠] الآية، وقيل: إلا خمسا، هاته الأربع، وقوله ﴿إن الذين أوتوا العلم من قبله﴾[الإسراء: ١٠٧] إلى آخر السورة، وقيل: إلا خمس آيات غير ما تقدم، وهي المبتدأة بقوله ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق﴾[الإسراء: ٣٣] الآية، وقوله ﴿ولا تقربوا الزنى﴾[الإسراء: ٣٢] الآية، وقوله ﴿أولئك الذين يدعون﴾[الإسراء: ٥٧] الآية، وقوله ﴿أقم الصلاة﴾[الإسراء: ٧٨] الآية، وقوله ﴿وآت ذا القربى حقه﴾[الإسراء: ٢٦] الآية، وقيل إلا ثمانيا من قوله ﴿وإن كادوا ليفتنونك﴾[الإسراء: ٧٣] إلى قوله ﴿سلطانا نصيرا﴾[الإسراء: ٨٠] .
وأحسب أن منشأ هاته الأقوال أن ظاهر الأحكام التي اشتملت عليها تلك الأقوال يقتضي أن تلك الآي لا تناسب حالة المسلمين فيما قبل الهجرة فغلب على ظن أصحاب تلك الأقوال أن تلك الآي مدنية. وسيأتي بيان أن ذلك غير متجه عند التعرض لتفسيرها.
ويظهر أنها نزلت في زمن فيه جماعة المسلمين بمكة، وأخذ التشريع المتعلق بمعاملات جماعتهم يتطرق إلى نفوسهم، فقد ذكرت فيها أحكام متتالية لم تذكر أمثال عددها في سورة مكية غيرها عدا سورة الأنعام، وذلك من قوله ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾[الإسراء: ٢٣] إلى قوله ﴿كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها﴾[الإسراء: ٣٨] .
وقد اختلف في وقت الإسراء، والأصح أنه كان قبل الهجرة بنحو سنة وخمسة أشهر، فإذا كانت قد نزلت عقب وقوع الإسراء بالنبي ﷺ تكون قد نزلت في حدود سنة اثنتي عشرة بعد البعثة، وهي سنة اثنتين قبل الهجرة في منتصف السنة.
وليس افتتاحها بذكر الإسراء مقتضيا أنها نزلت عقب وقوع الإسراء، بل يجوز أنها نزلت بعد الإسراء بمدة.
وذكر فيها الإسراء إلى المسجد الأقصى؛ تنويها بالمسجد الأقصى، وتذكيرا بحرمته.
نزلت هذه السورة بعد سورة القصص، وقبل سورة يونس.
وعدت السورة الخمسين في تعداد نزول سورة القرآن.
وعدد آيها مائة وعشر في عد أهل المدينة، ومكة، والشام، والبصرة، ومائة وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة.
العماد الذي أقيمت عليه أغراض هذه السورة إثبات نبوة محمد ﷺ، وإثبات أن القرآن وحي من الله، وإثبات فضله وفضل من أنزله، وذكر أنه معجز، ورد مطاعن المشركين فيه وفيمن جاء به، وأنهم لم يفقهوه فلذلك أعرضوا عنه.
وإبطال إحالتهم أن يكون النبي ﷺ أسري به إلى المسجد الأقصى، فافتتحت بمعجزة الإسراء توطئة للتنظير بين شريعة الإسلام، وشريعة موسى عليه السلام على عادة القرآن في ذكر المثل والنظائر الدينية، ورمزا إلهيا إلى أن الله أعطى محمدا ﷺ من الفضائل أفضل مما أعطى من قبله.
وأنه أكمل له الفضائل فلم يفته منها فائت، فمن أجل ذلك أحله بالمكان المقدس الذي تداولته الرسل من قبل، فلم يستأثرهم بالحلول بذلك المكان الذي هو مهبط الشريعة الموسوية، ورمز أطوار تأريخ بني إسرائيل وأسلافهم، والذي هو نظير المسجد الحرام في أن أصل تأسيسه في عهد إبراهيم كما سننبه عليه عند تفسير قوله تعالى ﴿إلى المسجد الأقصى﴾ [الإسراء: ١]، فأحل الله به محمدا عليه الصلاة والسلام، بعد أن هجر وخرب؛ إيماء إلى أن أمته تجدد مجده.
وأن الله مكنه من حرمي النبوة والشريعة، فالمسجد الأقصى لم يكن معمورا حين نزول هذه السورة، وإنما عمرت كنائس حوله، وأن بني إسرائيل لم يحفظوا حرمة المسجد الأقصى، فكان إفسادهم سببا في تسلط أعدائهم عليهم، وخراب المسجد الأقصى، وفي ذلك رمز إلى أن إعادة المسجد الأقصى ستكون على يد أمة هذا الرسول الذي أنكروا رسالته.
ثم إثبات دلائل تفرد الله بالإلهية، والاستدلال بآية الليل والنهار وما فيهما من المنن على إثبات الوحدانية.
والتذكير بالنعم التي سخرها الله للناس، وما فيها من الدلائل على تفرده بتدبير الخلق، وما تقتضيه من شكر المنعم، وترك شكر غيره، وتنزيهه عن اتخاذ بنات له.
وإظهار فضائل من شريعة الإسلام وحكمته، وما علمه الله المسلمين من آداب المعاملة نحو ربهم سبحانه، ومعاملة بعضهم مع بعض. والحكمة في سيرتهم وأقوالهم، ومراقبة الله في ظاهرهم وباطنهم.
وعن ابن عباس أنه قال: التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل، وفي رواية عنه: ثمان عشرة آية منها كانت في ألواح موسى، أي من قوله تعالى ﴿لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا﴾ [الإسراء: ٢٢] إلى قوله ﴿ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا﴾ [الإسراء: ٣٩] .
ويعني بالتوراة الألواح المشتملة على الوصايا العشر، وليس مراده أن القرآن حكى ما في التوراة، ولكنها أحكام قرآنية موافقة لما في التوراة.
على أن كلام ابن عباس معناه: أن ما في الألواح مذكور في تلك الآي، ولا يريد أنهما سواء؛ لأن تلك الآيات تزيد بأحكام، منها قوله ﴿ربكم أعلم بما في نفوسكم﴾ [الإسراء: ٢٥] إلى قوله ﴿لربه كفورا﴾ [الإسراء: ٢٧]، وقوله ﴿ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق﴾ [الإسراء: ٣١] . وقوله ﴿ولا تقربوا مال اليتيم﴾ [الإسراء: ٣٤] إلى قوله ﴿ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة﴾ [الإسراء: ٣٩]، مع ما تخلل ذلك كله من تفصيل وتبيين عريت عنه الوصايا العشر التي كتبت في الألواح، وإثبات البعث والجزاء، والحث على إقامة الصلوات في أوقاتها، والتحذير من نزغ الشيطان وعداوته لآدم وذريته، وقصة إبايته من السجود، والإنذار بعذاب الآخرة. وذكر ما عرض للأمم من أسباب الاستئصال والهلاك، وتهديد المشركين بأن الله يوشك أن ينصر الإسلام على باطلهم، وما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين، واستعانتهم باليهود، واقتراحهم الآيات، وتحميقهم في جهلهم بآية القرآن، وأنه الحق.
وتخلل ذلك من المستطردات والنذر والعظات ما فيه شفاء ورحمة، ومن الأمثال ما هو علم وحكمة.