آيات
٧٨
مكان النزول
المدينة المنورة
(مقتبس من تفسير ابن عاشور – التحرير والتنوير)
سميت هذه السورة الحج في زمن النبيء ﷺ . أخرج أبو داود، والترمذي عن عقبة بن عامر قال: قلت: «يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال: نعم» .
وأخرج أبو داود، وابن ماجه «عن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان» . وليس لهذه السورة اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورة الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم - عليه السلام - بالدعوة إلى حج البيت الحرام، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويها بالحج وما فيه من فضائل ومنافع، وتقريعا للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن فرض الحج على المسلمين بالاتفاق، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران. واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية. أو كثير منها مكي وكثير منها مدني.
فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء: هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله ﴿هذان خصمان﴾ [الحج: ١٩] إلى ﴿وذوقوا عذاب الحريق﴾ [الحج: ٢٢] . قال ابن عطية: وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات.
وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن: هي مدنية إلا آيات (﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي﴾ [الحج: ٥٢]) إلى قوله تعالى ﴿أو يأتيهم عذاب يوم عقيم﴾ [الحج: ٥٥] فهن مكيات.
وعن مجاهد، عن ابن الزبير: أنها مدنية. ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة، أي لا يعرف المكي بعينه، والمدني بعينه. قال ابن عطية: وهو الأصح.
وأقول: ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور: أنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها، بل أرادوا أن كثيرا منها مكي وأن مثله أو يقاربه مدني، وأنه لا يتعين ما هو مكي منها وما هو مدني ولذلك عبروا بقولهم: هي مختلطة. قال ابن عطية: روي عن أنس بن مالك أنه قال: نزل أول السورة في السفر فنادى رسول الله بها فاجتمع إليه الناس وساق الحديث الذي سيأتي. يريد ابن عطية أن نزولها في السفر يقتضي أنها نزلت بعد الهجرة. ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة فإن افتتاحها بـ (يا أيها الناس) جار على سنن فواتح السور المكية. وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة. ومع هذا فليس الافتتاح بـ (يا أيها الناس) بمعين أن تكون مكية، وإنما قال ابن عباس (يا أيها الناس) يراد به المشركون. ولذا فيجوز أن يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبيء ﷺ بها، فإن قوله ﴿إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام﴾ [الحج: ٢٥] يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبيء والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة. وكذلك قوله ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق﴾ [الحج: ٣٩] فإنه صريح في أنه نزل في شأن الهجرة.
روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال: لما أخرج النبيء من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيئهم ليهلكن فأنزل الله ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله﴾ [الحج: ٣٩]، وكذلك قوله ﴿والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا﴾ [الحج: ٥٨] ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك.
وأحسب أنه لم تتعين طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة. ولعل ترتيبها كان بتوقيف من النبيء ﷺ ومثل ذلك كثير. وقد قيل في قوله تعالى ﴿هذان خصمان اختصموا في ربهم﴾ [الحج: ١٩] أنه نزل في وقعة بدر، لما في الصحيح عن علي وأبي ذر: أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذر يقسم على ذلك. ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبيء ﷺ بمكة كما يقتضيه افتتاحها بـ (﴿يا أيها الناس﴾ [الحج: ١]) فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبيء ﷺ بالمدينة. وروى الترمذي وحسنه وصححه عن ابن أبي عمر، عن سفيان عن ابن جدعان، عن الحسن، عن عمران بن حصين «أنه لما نزلت على النبيء ﷺ ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم﴾ [الحج: ١] إلى قوله ﴿ولكن عذاب الله شديد﴾ [الحج: ٢] . قال: أنزلت عليه هذه وهو في سفر ؟ فقال: ”أتدرون» ؟ “ وساق حديثا طويلا. فاقتضى قوله: أنزلت عليه وهو في سفر، أن هذه السورة أنزلت على النبيء ﷺ بعد الهجرة فإن أسفاره كانت في الغزوات ونحوها بعد الهجرة. وفي رواية عنه أن ذلك السفر في غزوة بني المصطلق من خزاعة وتلك الغزوة في سنة أربع أو خمس، فالظاهر من قوله ”أنزلت وهو في سفر“ أن عمران بن حصين لم يسمع الآية إلا يومئذ فظنها أنزلت يومئذ فإن عمران بن حصين ما أسلم إلا عام خيبر وهو عام سبعة، أو أن أحد رواة الحديث أدرج كلمة أنزلت عليه وهو في سفر في كلام عمران بن حصين ولم يقله عمران. ولذلك لا يوجد هذا اللفظ فيما روى الترمذي وحسنه وصححه أيضا عن محمد ابن بشار، عن يحيى بن سعيد عن هشام بن أبي عبد الله عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: «كنا مع النبيء في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم﴾ [الحج: ١] إلى قوله ﴿ولكن عذاب الله شديد﴾ [الحج: ٢] إلى آخره» . فرواية قتادة عن الحسن أثبت من رواية ابن جدعان عن الحسن، لأن ابن جدعان واسمه علي بن زيد قال فيه أحمد وأبو زرعة: ليس بالقوي. وقال فيه ابن خزيمة: سيء الحفظ، وقد كان اختلط فينبغي عدم اعتماد ما انفرد به من الزيادة. وروى ابن عطية عن أنس بن مالك أنه قال: أنزل أول هذه السورة على رسول الله في سفر. ولم يسنده ابن عطية.
وذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال: سورة الحج من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها.
وقد عدت السورة الخامسة والمائة في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: نزلت بعد سورة النور وقبل سورة المنافقين. وهذا يقتضي أنها عنده مدنية كلها لأن سورة النور وسورة المنافقين مدنيتان فينبغي أن يتوقف في اعتماد هذا فيها.
وعدت آياتها عند أهل المدينة ومكة: سبعا وسبعين. وعدها أهل الشام: أربعا وسبعين. وعدها أهل البصرة: خمسا وسبعين: وعدها أهل الكوفة: ثمانا وسبعين.
ومن أغراض هذه السورة: خطاب الناس بأمرهم أن يتقوا الله ويخشوا يوم الجزاء وأهواله.
والاستدلال على نفي الشرك وخطاب المشركين بأن يقلعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية وعن المجادلة في ذلك اتباعا لوساوس الشياطين، وأن الشياطين لا تغني عنهم شيئا ولا ينصرونهم في الدنيا وفي الآخرة.
وتفظيع جدال المشركين في الوحدانية بأنهم لا يستندون إلى علم وأنهم يعرضون عن الحجة ليضلوا الناس.
وأنهم يرتابون في البعث وهو ثابت لا ريبة فيه وكيف يرتابون فيه بعلة استحالة الإحياء بعد الإماتة ولا ينظرون أن الله أوجد الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم طوره أطوارا.
وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتحيا وتخرج من أصناف النبات، فالله هو القادر على كل ذلك. فهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير. وأن مجادلتهم بإنكار البعث صادرة عن جهالة وتكبر عن الامتثال لقول الرسول ﷺ .
ووصف المشركين بأنهم في تردد من أمرهم في اتباع دين الإسلام.
والتعريض بالمشركين بتكبرهم عن سنة إبراهيم - عليه السلام - الذي ينتمون إليه ويحسبون أنهم حماة دينه وأمناء بيته وهم يخالفونه في أصل الدين. وتذكير لهم بما من الله عليهم في مشروعية الحج من المنافع فكفروا نعمته. وتنظيرهم في تلقي دعوة الإسلام بالأمم البائدة الذين تلقوا دعوة الرسل بالإعراض والكفر فحل بهم العذاب.
وأنه يوشك أن يحل بهؤلاء مثله فلا يغرهم تأخير العذاب فإنه إملاء من الله لهم كما أملى للأمم من قبلهم. وفي ذلك تأنيس للرسول ﷺ والذين آمنوا، وبشارة لهم بعاقبة النصر على الذين فتنوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق.
وأن اختلاف الأمم بين أهل هدى وأهل ضلال أمر به افترق الناس إلى ملل كثيرة.
وأن يوم القيامة هو يوم الفصل بينهم لمشاهدة جزاء أهل الهدى وجزاء أهل الضلال.
وأن المهتدين والضالين خصمان اختصموا في أمر الله فكان لكل فريق جزاؤه.
وسلى الله رسوله ﷺ والمؤمنين بأن الشيطان يفسد في قلوب أهل الضلالة آثار دعوة الرسل ولكن الله يحكم دينه ويبطل ما يلقي الشيطان فلذلك ترى الكافرين يعرضون وينكرون آيات القرآن.
وفيها التنويه بالقرآن والمتلقين له بخشية وصبر. ووصف الكفار بكراهيتهم القرآن وبغض المرسل به. والثناء على المؤمنين وأن الله يسر لهم اتباع الحنيفية وسماهم المسلمين.
والإذن للمسلمين بالقتال وضمان النصر والتمكين في الأرض لهم.
وختمت السورة بتذكير الناس بنعم الله عليهم وأن الله اصطفى خلقا من الملائكة ومن الناس فأقبل على المؤمنين بالإرشاد إلى ما يقربهم إلى الله زلفى وأن الله هو مولاهم وناصرهم.